لم يعرف المفكرون والفلاسفة قضية أثارت جدالا واختلافا ورؤى متباينة قدر قضية الحب وتعريفاته وكنهه ..
وما هى صوره .. وما الذى يعنيه الحب العذرى . وهل هناك حب غير عذرى .. ؟
وما هى علاقة الحب بما يتشابه معه من مسميات كالعشق والهوى والاعجاب .. ؟!
ومن المسئول عن انطلاق شرارته .. هل هو القلب أم العقل أم العين أم كل هؤلاء ؟!
فلنبحر قليلا ونناقش ونفهم .. ربما نصل إلى خلاصة فكرية متزنة فى تلك الأمور
أولا ما هو الحب ..؟!
الحب هو الشعور الأسمى للإنسانية ومقياس تحضرها وهو أعم وأشمل من أن يجمعه تفسير أو تحدده مقولة .. وهو أحد الغوامض التى لا مجال لفك قيد غموضها وهذا الغموض هو السبب الواقف خلف عدم القدرة على الخاص منه كبقية العواطف لأنه داء لا وجود لأسبابه ومعرفة السبب هى أول خطوة للعلاج
ومن العبث أن يتم ابتذال كلمة الحب أو تعميمها مع أى شعور أو قصرها على علاقة انسانية محددة فهى تعبير عن شعور لا يشترط لتوافره أن يكون بين ذكر وأنثي كما هو معتاد أو أن تحكمه علاقات اجتماعية ..
فالحب هو ما عجزنا عن تفسيره من المشاعر وهو أكبر من العاطفة ودون العبادة ..
ويتوافر على مستويات تتفق فى المفهوم وتختلف فى درجته من حيث النقاء .. فغاية الحب هى حب العبد لله ورسوله عليه الصلاة والسلام وكذلك لانتمائه للبلد أو العشيرة أو الأهل ثم للتعبير عن العلاقة الانسانية التى تجمع الرجل بالمراة وإن كانت تلك الاخيرة أكثرهن إثارة للجدل من حيث اضمحلال معناها واستخدامه للتعبير عن نوعيات أخرى من العواطف لا توجد علاقة بينها وبين الحب
وهو كما سبق القول غير قابل للتفسير بمعنى أنه شعور وانتماء غير مسبب والوصول إليه يتطلب صفاء روحيا ليس سهلا بل يستعصي على الأعم الأغلب من الناس
فالى تنويهات بسيطة عن الحب وأنواعه لنعرف ظواهره الحقيقية ..
الحب الإلهى قرين الإيمان
أول درجات الحب وأسماها منزلة هى حب الله تعالى وحب رسوله عليه الصلاة والسلام ..
وهو الشعور الذى يتطلب لنكتسب مسماه أن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما كما عبر الحديث الشريف فى هذا الصدد عن الإيمان
فالايمان هى الرتبة التى تعلو الاسلام وقد نفاها الرسول عليه الصلاة والسلام عن الذين لا يكون الله ورسوله أحب إليهم ممن سواهم ..
فالإسلام
أن تشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام وتسلم بالأوامر والنواهى
أما الايمان
ومقره النية حيث الإخلاص غير المكشوف لغير الله تعالى فهو أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وبالقضاء والقدر خيره وشره وبالملائكة والحساب والبعث وهو هنا درجة من الحب الإلهى
والإحسان ..
أن تعبد الله كأنك تراه .. فإن لم تكن تراه فانه يراك وهذا هو أعمق وأنزه درجة للحب على الاطلاق
وتتزايد رتبة الحب فتصل بالانسان إلى الدرجة الأعلى من الإيمان وهى الإحسان .. تلك المرتبة التى لا تتوافر إلا لقلة قليلة من الصالحين حيث يكون الحب الإلهى هنا متملكا لقلب العبد دونما انتظار لجزاء أو طمعا فى جنة أو خوفا من حساب كما عبر عن ذلك أحد الصالحين بقوله" اللهم انى أحبك لا طمعا فى جنة ولا خوفا من النار .. "
وكما قال الشاعر .. مخاطبا الله عز وجل
أحبك حبين حب الهوى ×× وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذى هو حب الهوى ×× فشغلى بحبك عمن سواكا
وأما الذى أنت أهل له ×× فكشفك لى الحجب حتى أراكا
ونخلص من هذا الى أن الحب منزه تماما عن كل غرض وعن أى سبب فى المطلق .. فتوافر المبرر للحب ينفي وصف الحب عن الشعور ويجعله رهنا لعاطفة أخرى تقبل مثل هذا التداخل ..
فالحب عاطفة بالغة النقاء والشفافية لا وجود فيها مطلقا للمبررات أو الفائدة أو المسببات .. وهى بالتالى غير منتهية لهذا السبب
وبالمثل حب الوالدين ..
وليس ضروريا أن يكون الحب من الإبن لوالديه متوافرا حتى يكون العرفان لهما قائما ..
فمن الممكن أن يتوافر العرفان بغير الحب عندما يعامل الإبن أبويه معاملة الأوامر والنواهى من الله سبحانه وتعالى فهو هنا لا يبر بوالديه حبا فيهما بل خوفا من جرم العقوق
وبالمثل فى الصداقة ..
ذلك المفهوم الذى تم ابتذاله بدوره فأصبح مجالا للنفي والانكار وهو أعلى درجات العلاقات الانسانية بعد بر الوالدين فالحب فى الله إن لم يتوافر بين الصديقين فلا مفهوم هنا للصداقة .. ولذك كان الجزاء الأوفي لمن يحب المرء لا يحبه إلا لله وفى الله يكون الجزاء هنا ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله كما أخبرنا الحديث المشرف
الحب بين الرجل والمرأة
كما رأينا أن الحب درجات فى ترتيبه ونفس هذا التقسيم المتدرج يكون فى أنواع الحب ذاتها ..
والحب بين الرجل والمرأة ـ تلك القضية الخلافية ـ له مستويان مثلما رأينا فى الحب الإلهى حيث هناك حب الايمان وهناك أيضا حب الإحسان ..
فبالمثل يوجد فى الحب الطبيعى إن صحت التسمية مرتبتين مماثلتين هما الحب العذرى والحب العادى ..
وكل منهما ينسحب عليه نفس خصائص ومميزات الحب كشعور غامض منزه عن الأغراض والاختلاف بينهما اختلاف فى الدرجة فقط ..
والحب العادى هو الحب الذى يكنه الرجل لمحبوبته أو العكس ويجمع فيما بينهما بدون وجود إرادة التملك أو نية الاستغلال أيا كانت ..
ولذا فالمحب الحقيقي لا يعنيه من الزواج مثلا إلا تقنين وتنظيم رؤيته لحبيبته بانتظام ولا يري فيها إلا كائنا شفافا تتغذى روحه برؤيته بعيدا عن أية غريزة بشرية وإذا كان الحب متبادلا فهنا تتواصل قنوات الإحساس بينهما إلى درجة تثير ذهول من حولهما لقدرة كل منهما على الشعور بالآخر كما لو كانا روحان بجسد واحد
ولست أهدف هنا إلى بيان أن شرط الحب أن يكون خاليا من متطلبات الغريزة بل المقصود ألا تكون الغريزة عاملا فى الحب ذاته او موضع اهتمام .. بل تتحول العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة إلى وسيلة تعبير ليس أكثر ولا أقل عندما يجتمعا برباط الزواج وتختلط مشاعر الحب بشيئ من العشق وهو اختلاط طبيعى لا ينتج تناقضا
ولكن يظل للحب نكهته الخاصة للغاية فى أن العلاقة الزوجية هنا تظل دوما أبدا بلا ملل لأنها تتجدد بكل مرة .. وتلامس الكفين بين الحبيبين كافيا لسريان حرارة مشاعرهما بينهما وهو ما يفتقده الزواج التقليدى بطبيعة الحال إن كان خاليا من نزعة العاطفة لأن الغريزة قابلة للتشبع بينما العاطفة لا تتشبع قط .. والغريزة وسيلة فى الحب بينما هى غاية عندما يغيب ..
كما عبر عن ذلك أحد الشعراء ببيتين من أرق ما قرأت قال فيهما
أٌقَبلهُ على جـزعِ ×× كَـشُرْب الطائر الفزعِ
رأى ماءً .. فواقعهُ ×× وخاف عواقب الطمعِ
كما أن الحب هنا لا يعرف أي نوع من الغاية لأنه هو نفسه الغاية .. فغاية المحب أنه أحب وفقط .. ومن هنا تأتى مقاييس الصعوبة التى تجعله نادرا فى زمننا هذا
والحب كشعور لا زيادة فيه أو نقصان والدرجات هنا لا تعد مراحل زيادة أو نقص بل هى أشبه بالأنواع التى لا تتغير مع امتداد العمر فإن وُلِد الحب عذريا من البداية فلا مجال لتحوله إلى غيره والعكس صحيح
وبمعنى أكثر وضوحا .. فالحب كائن يولد بهيئته ويظل عليها
أما الحب العذرى .. فتلك قضية غابت بأهلها منذ زمن بعيد .. وان كانت أثارت القدماء أنفسهم بكل ما عرف عنهم من سمو ورقي فما بالنا نحن .. ؟!
فالحب العذرى
كان أساسه كما هو مشهور لقبيلة بنى عذارة التى عُرف عنها انتشار حالاته .. ولو أن الحب العذرى لم يقتصر على تلك القبيلة فقط بل امتد بوصفه إلى مشاهير المحبين عبر التاريخ ممن نـُقلت قصصهم التى أثارت انبهار المحققيين لكتب التراث ولا تزال ..
وهو درجة عليا من السمو العاطفي كانت ترتفع بأصحابها إلى مصاف فريد فى مكانته .. كما رأينا مع بن الملوح الذى نقل عنه قوله " أنه لم يحب ليلي بل أحب الحب فى ليلي "
أو مثل الفتى العراقي الشريف الذى ارتضي لنفسه أن يـُتهم زورا بالسرقة ولا يفضح لقاءه بحبيبته .. وكان هذا فى أيام حكم خالد القسري للعراق .. وكان خالد يشعر ببراءة الفتى فأحب أن يجبره على البوح بالحقيقة لينجيه من حد السرقة ظلما لكن الفتى أبي فى اصرار فأودعه خالد السجن وأمر حراسه أن يتركوه منفردا ويراقبوه خلسة فسمعوه يقول
هددنى خالدٌ بقطع يدى ×× إن لم أبح عنده بقصتها
قلت هيهات أن أبوح بما ×× تضمن القلب من محبتها
قطع يدى بالذى اعترفت به ×× أهون للقلب من فضيحتها
وهذا القول هو مبدأ الحب العذرى الذى لا يكاد صاحبه يعقل صورة صاحبته أو العكس كما رأينا فى قصص وروايات الأصمعى الراوية الشهير والذى أمتعتنا تجاربه التى رواها من أهل عذرة ..
فالحب العذرى يرتفع بكل شيئ فى المحب حتى فى إدراكه لأشياء غير محسوسة وتأثره الخرافي بما ليس موجودا .. !!
كالحبيب الذى مات لأجل مقولة قيلت له بقدوم حبيبه إليه .. والآخر الذى اشتكى للأصمعى ولم يجد له حلا فألقي رأسه ومات وما إلى ذلك من أساطير القصص لا تزال الناس مختلفة حولها وان كانت ليست غريبة على سمو العاطفة
الحب وما عداه من عواطف ..
يخلط البعض فى وصف مشاعره بين الحب وما يتشابه أو يتناقض معه من عواطف كما يراها ويتمثل الخلط
فى الهوى والاعجاب والعشق
فأما الهوى فهو الميل أو الرغبة ومن هنا جاءت الحكمة المأثورة " آفة الرأى الهوى " أى أن ما يهدم الرأى الحيادى وجود الميل لطرف دون طرف وهو موجود بكثرة فى العلاقات الانسانية ويظنه أصحابه حبا .. مع أنه يناقض الحب فى شدة عبر صفاته فالهوى .. قابل للتبدل وللزوال للزيادة والنقصان بوجود المسببات المناسبة بعكس الحب الذى لا يعرف التبدل فى كافة أحواله
أما الاعجاب فهو نقيض للحب على وجه الاطلاق بينما يظنه البعض مكملا له أو بداية نامية لتصل لدرجة الحب .. لأن الإعجاب معناه عاطفة الميل لأجل تميز ما فى المعجب به وهو هنا بطبيعته مرهون البقاء ببقاء هذا التميز .. فإن زال يزول الإعجاب بشكل أساسي وبالتالى فهو يناقض الحب فى ركنين رئيسيين .. وجود سبب له وفى رهن بقائه ببقاء محل الإعجاب
أما العشق .. فهو الميل المادى الغريزى وهو قابل للتواجد كعاطفة منفردة .. أو مكملة للحب باعتباره جسر التواصل لكنه لا يُعد بطبيعة الحال حبا لكونه يعتمد بصفة أساسية على ماديات محسوسة
مبعث الحب ومكان بذرته ..
هناك سؤال دارت حوله مناقشات فلسفية عديدة .. وهو ما مؤداه أين يقع مبعث الشعور بالحب هل هو بالقلب أم بالعقل أم بالعين أم من خليط بين كل هذا .. ؟
وبشيئ من الفكر فى هذا الأمر لو تأملناه .. سنجد أن الحل الأبسط والأكثر منطقية أن نعرف طبيعة كل عضو من هذه الأعضاء .. ليتسنى لنا بالتحديد الحكم بينهم
فالقلب
هو مكان التقلب وسمى قلبا لأجل أنه لا يستقر على حال فى مشاعره .. وبهذا من المستحيل أن يكون موطنا للحب ومبعثا له لأن الحب له الديمومة والاستقرار ولهذا يدعو الصالحون من عباد الله بدعاء مأثور مؤاده " اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك"
لأن القلب موطن الهوى .. وما أبعد الهوى عن الحب
والعقل
مكان العقال أى الرباط كما عرفته قواميس اللغة وأساسه المنطق والتفكير وبهذا فلا مجال للقول بأن العقل مكان أو مبعث عاطفة الحب لكون هذا الأخير عاطفة بلا تفسير لا تخضع لأدنى منطق من صاحبها ولا سيطرة له عليها ..
ولذا نجد العقل هو المكان المناسب للعشق المنفرد لكون العشق غريزة منطقية موجودة بأعماق كل بشري .. وأيضا ما أبعد العشق المنفرد عن الحب
أما العين ..
فهى مكان التأثر بكل جميل .. ولا تتأثر إلا بما يروق لها من بديهيات الجمال وبالتالى هى مكان الاعجاب وليس الحب وهى هنا تتأثر بالإعجاب صعودا وهبوطا فما تراه اليوم قد تنكره غدا .. وأيضا يظل إعجاب العين مرهونا ببقاء الصورة على النحو التى عليه فإن تغيرت انصرفت العين لغيرها وكل هذا يضاد الحب الذى يولد مستقرا ثابتا بأعماق المحب
فأين هو مبعث الحب يا ترى .. ؟!
والاجابة المنطقية لكل هذا هو أن الحب بصفته من الغوامض غير المفسرة فمبعثه لابد أن يكون كذلك .. وهو الروح حيث تظل مسألة الروح مضمونة الغموض للأبد بقول الله عز وجل
" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا "
والاجابة تزداد بالمنطقية إذا عرفنا تأملنا الحديث الشريف القائل فيما معناه
" الأرواح جنودٌ مجندة .. ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف "
وقول الرسول عليه الصلاة والسلام اذا تأملناه بالفكر اللازم لوجدناه يتحدث عن أن الروح كون غامض يتلقي التوجيه والأمر وذلك من خلال كلمتيه " جنود مجندة " أى لا سلطان للعقل والادراك عليها ولا وجود للتفسير فيما تنجذب اليه أو تنفر منه وهو ذات الوصف الذى وصلنا إليه فى الحب ..
أى أن الحب غامض منبعث من غامض لا وجود للمعرفة فيه إلا فى معرفة من يقع عليه الحب وفقط وهو ما عبرت عنه شعرا فى قولى
أحبك يا ملاكى حب عمرٍ ×× غريب النبع معروف المصبْ
فلا تلقي سؤالك كيف تهوى ×× فلا أدرى سوى أنى أُحب