وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاأنعم بك لو حققت في حياتك نصوص الوحي التي تدعونا إلى العفو والتسامحوالمصالحة الاجتماعية والتواصل الإنساني والرحمة ببني البشر، فالله يقول:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمرانويبدأ هذا التسامح بالتسامح مع النفس، فلا نرهقها بحمل الأحقاد والضغائن،ولا نعذبها بالكراهية والعدوانية، بل نغرس فيها شجرة الرحمة والمحبة،ونتسامح مع والدينا وقرابتنا وأهلنا وذوينا، فنصل ما أمر الله بوصله،ونرعاهم بالبر، ونعفو عن زلاتهم، ونتحمل أذيتهم، ونتسامح مع أبناءمجتمعنا، حتى إذا أخطأوا أو أذنبوا أرشدناهم برفق، ونصحناهم بلين معتقدينأننا مثلهم، يقع منا ما يقع منهم، وعلينا أن نرسل للعالم رسالة التسامحوتقديم رسالتنا في حلة(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر)[آل عمران: 159].ولهذا قال بعض الحكماء: "أحسنُ المكارمِ؛ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ"، فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه؛ غفر له وسامحه،(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى:43].جاء عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِحَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ "وفي حادثة الطائف المعروفة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فَنَادَانِيمَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِالأَخْشَبَيْنِ! فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْيُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَيُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " أخرجه البخاري ومسلم .ولقد ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرات الأمثلة على التسامح والعفوتصور -عوفيت- لو أن رجلاً قتل أحب الناس إليك وأعزّهم عليك ثم جاءمستسلماً لدعوتك وأنت الداعية ـ هل تنسى ما ذرفت من دم القلب وماء العينعليه وتعفو؟؟ لا أريد إجابتك ولكن أريد أن تعلم أن رسول الله عفا عن قاتل عمه حمزة أسد الله وأسد رسوله لما أسلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا *** ومع إسراف الجاهل إلا حلما
هل أتاكم نبأ أهل مكة ؟ فقد جرعوه – صلى اللهعليه وسلم - وأصحابه الصعب والعلقم، أخرجوه من بلده، حاربوه في البلد الذياستقر فيه، آذوه في بدنه ونفسه، قالوا عنه ونالوا منه، قاطعوه في الشعب،وحبسوه، وضعوا الشوك في طريقه، ائتمروا به ليقتلوه، سخروا به كل سخرية، لايوماً ولا يومين، ولا سنة ولا سنتين، ثم أظفره الله بهم وحكّمه فيهمفأقامهم أمامه حول الكعبة أذلاء لا يملكون لأنفسهم شيئاً .. وجاءت ساعةالعقوبة التي يكون فيها الرد على سلسلة طويلة من التعديات والإساءات فهاهو يقول لهم ( ما تظنون أني فاعل بكم ؟؟ ) وجاء الحكم مفاجأة فقال ( أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء ) أسمعتم عن أبي سفيان؟ هذا الرجل الذي جمع الناسلحربه، وقتل أصحابه ومثّل بهم في غزوة أحد، وحزّب الأحزاب يوم الخندق،ودبّر لصدهم عن البيت يوم الحديبية، ومع هذا يعفو عنه يوم الفتح ويلاطفهويقول ( ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ ) فيقول أبو سفيان:بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وما أوصلك، لقد ظننت أن لو كان مع اللهإلهاً غيره لقد أغنى عنا شيئاً بعد، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسولالله، فأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل بيته مثابة وأمناً فقال ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) تأملوا بالله عليكم فهذه صورة أخرى عجيبة من تسامحه وصفحه صلى الله عليه وسلم : ها هو جرثومة الشر ( ابن أبيّ )، فهو سجل حافلبالمخازي، فقد أخفى خلاف ما أبدى، رجع بثلث الجيش يوم أحد، ويدعو: لاتنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وحالف الشيطان في الصد عن سبيلالله متعاوناً مع اليهود مرة ومع المشركين أخرى، فقد كانت كل أفعاله للناسآلام، وظل يشيع قذفاً وسباً في عرض الطاهرة عائشة رضي الله عنها، فكشفالله كيده ومكره وبرأ عائشة الطاهرة المطهرة.. ومضت الأيام ومات بعد أنملأت رائحة نفاقه كل فج بالله يا معاشر الإخوة والأخوات ما هو موقفكم من هذا الرجل لو حكّمكم الله في أمره؟؟ وجاء ابنه عبد الله إلى رسول الله يطلب الصفح عن أبيه، فصفح وطلب أن يكفّن في قميصه فمنح وأن يصلي عليه فتقدم ليصلي عليه فتقدم عمر وأخذ بثوبه وهو يقول: أتصلي على إبن أبيّ؟ ويمنع الرسول صلىالله عليه وسلم، ورسول الله يتبسم تأنيساً لعمر وتطييباً لقلبه ويقول أخّر عني يا عمر إني خيرت فاخترت لو أعلم أني زدت على السبعين يغفر له لزدت له خلق أبى إلا ارتفاعا ** فأضحى كالسماء على السماء
أخي القارئ / أختي القارئة: لو سرقكم سارق ماذا ستقولون عنه؟ هذا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، ذهبإلى السوق ليشتري طعاماً يوماً ما، ولما أراد دفع الثمن، وجد الدراهم قدسرقت منه فجاء من حوله يدعون على السارق ويقولون اللهم اقطع يده، لكنه رضيالله عنه قال: ( اللهم إن كان قد حمله على أخذها الحاجة والفقر فبارك له فيها وإن كانت جراءته على الذنب فاجعلها آخر ذنوبه ) كأنما خلقت بالطيب طينته ** فنبته ليس إلا الورد والنفل
أتى رجل من أتباع المعتصم، فسبّ الإمام أحمدأمام الناس، فقال الناس: يا أبا عبد الله! رد على هذا السفيه؟ قال: لاوالله فأين القرآن إذاً؟! يقول الله عزّ من قائل: وَإِذَا خَاطَبَهُمُالْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63]. هذا هو القرآن الذي يمشي علىالأرض.الأحنف رحمه الله خاصمه رجل وعنفه وقال له لإن قلت كلمة واحدة لتسمعن عشراً، فقال له الأحنف: ولإن قلتَ عشراً فلن تسمع مني واحدة َشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له الشَّعْبِيُّ: "إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ".وشتم رجل معاوية رضي الله عنه فدعا له وأمر له بجائزة.أكثرت الأمثلة ولكن من باب: على آثارهم سيروا تكونوا خير ركبانليكن ردنا على مخالفينا ومن يتطاولون علينا (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيإِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة:27-28].وصدق (الشافعي) عندما أنشد:سامح صديقك إن زلت به قدمُ *** فليس يسلمُ إنسـان من الزللِ
فهل من مقتد بهؤلاء يا رجال ونساء الأمة؟؟ فوالله بمثل هذه الأخلاق ترتفع راية الله في أرض الله فهل نرفع معاً شعار { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (85) سورة الحجر
؟؟